عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع -من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية- بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليه مع الدخول بها -إذا لم تكن يائسة- أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوماً.
وولد المتعة -ذكراً كان أو أُنثى- يلحق بالأب ولا يدعى إلاّ به، وله من الإرث ما أوصانا الله سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأُمّ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والأُمّهات، وكذا العمومات الواردة في الأُخوة والأخوات والأعمام والعمّات.
وبالجملة:
المتمتّع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة. ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلاّ أنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين، ولا قسمة ولا نفقة لها. كما أنّ له العزل عنها. وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية; لأنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما مؤقّت والآخر دائم، وأنّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.
وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولا يشكّ أحد في أصل مشروعيّته، وإنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.
النكاح المنقطع فى القرآن الكريم
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه:
(وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاختَينِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحيماً*والُمحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ الله عَلَيكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً ولا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ الله كانَ عَليماً حَكيماً)(2).
الآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه :
إنّ هذه السورة; أي سورة النساء، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (وإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً...)(3).
وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: (وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَريئاً)(4).
وأمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ والله أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنات غَيْرَ مُسافِحات ولا مُتّخِذاتِ أخْدان...)(5).
فقوله سبحانه: (مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: (إلاّ علَى أَزْواجِهِمْ أوْ مَا مَلكَتْ أيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ...)(6).
وقوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير.
فإلى هنا تمّ بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة، وهو الذي جاء في الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: (فما استمتعتم) على الزواج الدائم، وحمل قوله: (فآتوهنّ أُجورهُنّ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاصّ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.
إنّ تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه: (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكلّ إلاّ بالمسّ، وأمّا المتعارف فيختلف حسب اختلاف العادات العرفية، فربّما يؤخذ قبل العقد وأُخرى يترك إلى أن يرث أحدهما الآخر.
ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عبّاس، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.
وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين:
إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده(7).
وأبو جعفر الطبري في تفسيره(8).
وأبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن(9).
وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى(10).
ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف(11).
وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن(12).
وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب(13).
إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم.
وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يتّقون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.
ونزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: (وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحين).
أنّ قوله سبحانه: (أن تبتغوا) مفعول له لفعل مقدّر، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: (تبتغوا) فيعلم من القرينة وهو النساء; أي طلبكم النساء; أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء من طريق الحلال لا الحرام.
وقوله سبحانه: (محصنين) وهو من الإحصان بمعنى العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه: (غير مسافحين) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ الماء، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء: (وآتوهُنَّ أُجُورهنَّ بالمعروف محصنات غير مسافحات) أي عفائف غير زانيات.
ومعنى الآية:
أنّ الله تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا، وهذا المناط موجود في جميع الأقسام، النكاح الدائم، والمؤقّت، والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.
هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي:
ويجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.
ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة.
ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللّذين يتزوّجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل ولا برهان، وبهذا الشكل يتعيّن الجزم بصحّة هذا النكاح، فأيّ فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟
يقول صاحب المنار:
إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت(14).
أقول: نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ، فهو صحيح بلا إشكال.
إنّ تسويغ النكاح المؤقّت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّ وجلّ في صفة المؤمنين: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ*إلاّ عَلَى أزواجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومينَ*فَمَنِ ابْتَغْى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُون)(15).
والمراد من الآية: أنّ من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحلّه الله لهم إلى ما حرّمه عليهم. والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.
ويجاب عليها: أنّها دعوة بلا دليل. فإنّها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدلّ بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الأحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.
إنّ المتمتّع في النكاح المؤقّت لا يقصد الإحصان دون المسافحة، بل يكون قصده مسافحة، فإن كان هناك نوع مّا من إحصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمنِ الزنا، فإنّه لا يكون فيه شيء مّا من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :
كرة حُذِفْت بصوالجة * فتلقّفها رجل رجل(16)
ويجاب عليها: أنّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقّت يختصّ بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكلّ واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق، وإلاّ فلا محيص عن التنقّل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:
1- النكاح الدائم.
2- النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.
3- كبت الشهوة الجنسية.
فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاقّ لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء; وهم قليلون، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.
إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيّه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلابدّ أن يضع لكلّ مشكلة اجتماعية حلولا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:
ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة الماديّة بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه الله، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة، الذي يشكّل الحلّ الأنجع لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترنّ في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له، حيث قال عليه السلام:
«لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقيّ أو شقيّة»
وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل(17) وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك; إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان الله! ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.
إنّ الآية منسوخة بالسنّة، واختلفوا في زمن نسخها إلى أقوال شتّى:
1- أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.
2- ما أُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.
3- كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.
4- أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها(18).
ويجاب عليها: هذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً، وقد صحّ عن عمران بن الحصين أنّه قال: «إنّ الله أنزل المتعة وما نسخها بآية أُخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطّاب.
إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وإنّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله عزّ وجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.
بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد أنّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أنهى عنهنّ، وأُحرمهنّ، وأُعاقب عليهنّ: متعة النساء، ومتعة الحج، وحيّ على خير العمل(19).
وقد روي عن ابن عبّاس -وهو من المصرّحين بحلّية المتعة وإباحتها- في ردّه على من حاجّه بنهي أبي بكر وعمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالإباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن يتّبع أم أمر عمر؟
كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي، وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النصّ الواضح، وهو ما انفكّ يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم إذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها، فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجّة ولا دليل.
المنكرون للتحريم
ذكرنا أنّ مجموعاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقرّوا به، ومنهم:
1- عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، فيما أخرجه الطبري بالإسناد إليه أنّه قال: «لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ»(20).
2- عبد الله بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، قال -وقد سئل عن متعة النساء-: والله ما كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر»(21).
3- عبد الله بن مسعود، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ الله لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ»(22).(23).
4- عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل قرآن يحرّمها، ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء(24).
أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات(25).
5- كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلاّ أنّه توقّف خوفاً من الفتنة وتفرّق المسلمين. قال ابن خلّكان، نقلا عن محمّد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رضي الله عنه؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال: رجل يقول: من عمر بن الخطاب، نكلّمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غمّ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟! قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عزّ وجلّ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون*إلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ ملومين*فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العادُونَ)(26) يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين(27).
أقول: هل عزب عن ابن أكثم -وقد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت- أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: (إلاّ على أزواجهم) وانّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافى ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد فيلحق قطعاً، ونفي اللحوق ناشئ إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.
وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمّة على تحليلها في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخليفة الأوّل، أفيحسب ابن أكثم أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة؟!
كبرت كلمة تخرج من أفواههم
وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان من صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية،:
- فقد روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، فأتمّوا الحجّ والعمرة وأبتّوا نكاح هذه النساء، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة(28).
- وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، وانّ ابن عبّاس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر، فلمّا ولّي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول، وإنّهما متعتان كانتا عَلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما متعة الحج والأُخرى متعة النساء(29).
وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:
أوّلا: أنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع.
وثانياً: أنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة، ومن المعلوم أنّ اجتهاده -لو صحّت تسميته بالاجتهاد- حجّة على نفسه لا على غيره.
وفي الختـام نقول:
إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن في صدد الحديث عنها، بجملة منكرة من الآراء والأحكام تدلّ على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، ومن هذه الأقوال:
إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وأنّ المتمتَّع بها لا عدّة لها، وأنّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنَّعوا على من أباحها.
وقد خفي الواقع على هؤلاء، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدالّ على قصد الزواج صراحة، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق الماديّة، وانّ عليها أن تعتدّ بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار(30).
على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، أنّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة وعدم تحريمه -وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردد- إلاّ أنّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلاّ في حدود ضيّقة وخاصّة، وليس كما يصوّره ويتصوره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.
بعض المسائل الشرعية حول لزواج المؤقت:
1- يحلّ زواج المتعة اذا صدر الايجاب من المرأة فقالت زوجتُك نفسي أو أنكحتُك نفسي وصدر القبول من الزواج فقال قبلت النكاح أو قبلت الزواج، وقد ذكر المهر في العقد وذكر الأجل الذي ينتهي به عقد زواج المتعة، بشرط أن تكون المرأة غير مزوّجة وغير معتدّة. فان حصلت الامور المتقدمة صار الزواج صحيحاً كالزواج الدائم الا أن زواج المتعة يفترق عن الدائم بذكر مدّة له كعشرة سنين.
2- يحرم عقد المتعة في الصور التالية:
أ - على الكافرات غير الكتابيات (أي الملحدات).
ب- على الأمة الداخلة على الحرة من دون اذن الحرّة .
ج- على بنت أخ الزوجة وعلى بنت أخت الزوجة من دون إذن العمة أو الخالة التي هي زوجة للزوج من الأول.
د- إذا كانت مشهورة بالزنا، فإن بعض العلماء يحرّم التمتع بها من باب الاحتياط الواجب.
3- يجوز للمرأة الشابة غير المتزوجة أن تتزوج متعة وتشترط عدم الدخول بها، ولكن إنما يجوز لها أصل الزواج باذن الأب أو الجدّ للاب إذا كانت باكراً.
4- يجوز أن يكون المهر عملاً كخياطة ثوب أو تعليم كتابة ونحوها، كما يجوز أن يكون حقّاً قابل الانتقال كحقّ التحجير. فإن كان المهر في عقد المتعة طلباً أو شرطاً يؤول الى العمل أو الحق فهو جائز بشرط أن يكون العمل والحق معيناً.
5- كلٌّ من الزواج الدائم وزواج المتعة شرعي، فإن زواج المتعة فيه دليل قرآني قال تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة).
أ - إلا أن زواج المتعة له أجل والدائم ليس له أجل.
ب- وأن الزواج الدائم يحتاج إلى طلاق لأجل الفراق، بينما لا يحتاج زواج المتعة إلى الطلاق بل ينتهي بانتهاء أمده.
ج- ولا يوجد في زواج المتعة توارث إلا مع الاشتراط.
د- ولا تجب نفقة الزوجة على زوجها في المتعة إلا مع اشتراط ذلك. وهذا الأمران الأخيران (ج و د) قد يحصلان في الزواج الدائم أيضاً حيث أن المرأة الكافرة لا ترث زوجها المسلم مع أنها زوجة له دائمية، وكذا القاتلة فإنها لا ترث زوجها المسلم مع أنها زوجة دائمة. وكذا فإن الزوجة الناشزة لا نفقة لها مع أنها زوجة دائمة.
أما العدّة فهي لازمة في النكاح الدائم والنكاح المنقطع معاً.
الهوامش
2) النساء: 23-24.
وولد المتعة -ذكراً كان أو أُنثى- يلحق بالأب ولا يدعى إلاّ به، وله من الإرث ما أوصانا الله سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأُمّ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والأُمّهات، وكذا العمومات الواردة في الأُخوة والأخوات والأعمام والعمّات.
وبالجملة:
المتمتّع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة. ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلاّ أنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين، ولا قسمة ولا نفقة لها. كما أنّ له العزل عنها. وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية; لأنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما مؤقّت والآخر دائم، وأنّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.
وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولا يشكّ أحد في أصل مشروعيّته، وإنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.
النكاح المنقطع فى القرآن الكريم
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه:
(وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاختَينِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحيماً*والُمحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ الله عَلَيكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً ولا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ الله كانَ عَليماً حَكيماً)(2).
الآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه :
1 - الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه :
إنّ هذه السورة; أي سورة النساء، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (وإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً...)(3).
وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: (وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَريئاً)(4).
وأمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ والله أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنات غَيْرَ مُسافِحات ولا مُتّخِذاتِ أخْدان...)(5).
فقوله سبحانه: (مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: (إلاّ علَى أَزْواجِهِمْ أوْ مَا مَلكَتْ أيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ...)(6).
وقوله سبحانه: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير.
فإلى هنا تمّ بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة، وهو الذي جاء في الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: (فما استمتعتم) على الزواج الدائم، وحمل قوله: (فآتوهنّ أُجورهُنّ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاصّ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.
2 - تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع :
إنّ تعليق دفع الأُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه: (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكلّ إلاّ بالمسّ، وأمّا المتعارف فيختلف حسب اختلاف العادات العرفية، فربّما يؤخذ قبل العقد وأُخرى يترك إلى أن يرث أحدهما الآخر.
3 - تصريح جماعة من الصحابة بشأن نزولها :
ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عبّاس، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.
وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين:
إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده(7).
وأبو جعفر الطبري في تفسيره(8).
وأبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن(9).
وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى(10).
ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف(11).
وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن(12).
وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب(13).
إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم.
وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يتّقون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.
ونزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: (وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسافِحين).
أنّ قوله سبحانه: (أن تبتغوا) مفعول له لفعل مقدّر، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: (تبتغوا) فيعلم من القرينة وهو النساء; أي طلبكم النساء; أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء من طريق الحلال لا الحرام.
وقوله سبحانه: (محصنين) وهو من الإحصان بمعنى العفّة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه: (غير مسافحين) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ الماء، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء: (وآتوهُنَّ أُجُورهنَّ بالمعروف محصنات غير مسافحات) أي عفائف غير زانيات.
ومعنى الآية:
أنّ الله تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا، وهذا المناط موجود في جميع الأقسام، النكاح الدائم، والمؤقّت، والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.
هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي:
شبهات ضعيفة حول دلالة الآية:
الشبهة الأُولى:
أنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأُسرة وإيجاد النسل، وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه.ويجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.
ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة.
ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللّذين يتزوّجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل ولا برهان، وبهذا الشكل يتعيّن الجزم بصحّة هذا النكاح، فأيّ فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟
يقول صاحب المنار:
إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت(14).
أقول: نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ، فهو صحيح بلا إشكال.
الشبهة الثانية :
والمراد من الآية: أنّ من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحلّه الله لهم إلى ما حرّمه عليهم. والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.
ويجاب عليها: أنّها دعوة بلا دليل. فإنّها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدلّ بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الأحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.
الشبهة الثالثة :
كرة حُذِفْت بصوالجة * فتلقّفها رجل رجل(16)
ويجاب عليها: أنّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقّت يختصّ بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكلّ واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق، وإلاّ فلا محيص عن التنقّل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:
1- النكاح الدائم.
2- النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.
3- كبت الشهوة الجنسية.
فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاقّ لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء; وهم قليلون، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.
إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيّه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلابدّ أن يضع لكلّ مشكلة اجتماعية حلولا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:
ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة الماديّة بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه الله، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة، الذي يشكّل الحلّ الأنجع لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترنّ في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له، حيث قال عليه السلام:
«لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقيّ أو شقيّة»
وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل(17) وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك; إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان الله! ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.
الشبهة الرابعة:
1- أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.
2- ما أُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.
3- كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.
4- أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها(18).
ويجاب عليها: هذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً، وقد صحّ عن عمران بن الحصين أنّه قال: «إنّ الله أنزل المتعة وما نسخها بآية أُخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطّاب.
إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وإنّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله عزّ وجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.
بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد أنّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أنهى عنهنّ، وأُحرمهنّ، وأُعاقب عليهنّ: متعة النساء، ومتعة الحج، وحيّ على خير العمل(19).
وقد روي عن ابن عبّاس -وهو من المصرّحين بحلّية المتعة وإباحتها- في ردّه على من حاجّه بنهي أبي بكر وعمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالإباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن يتّبع أم أمر عمر؟
كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي، وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النصّ الواضح، وهو ما انفكّ يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم إذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها، فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجّة ولا دليل.
المنكرون للتحريم
ذكرنا أنّ مجموعاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقرّوا به، ومنهم:
1- عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، فيما أخرجه الطبري بالإسناد إليه أنّه قال: «لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ»(20).
2- عبد الله بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، قال -وقد سئل عن متعة النساء-: والله ما كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر»(21).
3- عبد الله بن مسعود، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أَحَلَّ الله لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ الله لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ»(22).(23).
4- عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل قرآن يحرّمها، ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء(24).
أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات(25).
5- كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلاّ أنّه توقّف خوفاً من الفتنة وتفرّق المسلمين. قال ابن خلّكان، نقلا عن محمّد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رضي الله عنه؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال: رجل يقول: من عمر بن الخطاب، نكلّمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غمّ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟! قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عزّ وجلّ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون*إلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ ملومين*فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العادُونَ)(26) يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين(27).
أقول: هل عزب عن ابن أكثم -وقد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت- أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: (إلاّ على أزواجهم) وانّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافى ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد فيلحق قطعاً، ونفي اللحوق ناشئ إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.
وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمّة على تحليلها في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخليفة الأوّل، أفيحسب ابن أكثم أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة؟!
كبرت كلمة تخرج من أفواههم
وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان من صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية،:
- فقد روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، فأتمّوا الحجّ والعمرة وأبتّوا نكاح هذه النساء، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة(28).
- وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، وانّ ابن عبّاس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر، فلمّا ولّي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول، وإنّهما متعتان كانتا عَلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما متعة الحج والأُخرى متعة النساء(29).
وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:
أوّلا: أنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع.
وثانياً: أنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة، ومن المعلوم أنّ اجتهاده -لو صحّت تسميته بالاجتهاد- حجّة على نفسه لا على غيره.
وفي الختـام نقول:
إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن في صدد الحديث عنها، بجملة منكرة من الآراء والأحكام تدلّ على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، ومن هذه الأقوال:
إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وأنّ المتمتَّع بها لا عدّة لها، وأنّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنَّعوا على من أباحها.
وقد خفي الواقع على هؤلاء، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدالّ على قصد الزواج صراحة، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق الماديّة، وانّ عليها أن تعتدّ بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار(30).
على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، أنّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة وعدم تحريمه -وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردد- إلاّ أنّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلاّ في حدود ضيّقة وخاصّة، وليس كما يصوّره ويتصوره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.
بعض المسائل الشرعية حول لزواج المؤقت:
1- يحلّ زواج المتعة اذا صدر الايجاب من المرأة فقالت زوجتُك نفسي أو أنكحتُك نفسي وصدر القبول من الزواج فقال قبلت النكاح أو قبلت الزواج، وقد ذكر المهر في العقد وذكر الأجل الذي ينتهي به عقد زواج المتعة، بشرط أن تكون المرأة غير مزوّجة وغير معتدّة. فان حصلت الامور المتقدمة صار الزواج صحيحاً كالزواج الدائم الا أن زواج المتعة يفترق عن الدائم بذكر مدّة له كعشرة سنين.
2- يحرم عقد المتعة في الصور التالية:
أ - على الكافرات غير الكتابيات (أي الملحدات).
ب- على الأمة الداخلة على الحرة من دون اذن الحرّة .
ج- على بنت أخ الزوجة وعلى بنت أخت الزوجة من دون إذن العمة أو الخالة التي هي زوجة للزوج من الأول.
د- إذا كانت مشهورة بالزنا، فإن بعض العلماء يحرّم التمتع بها من باب الاحتياط الواجب.
3- يجوز للمرأة الشابة غير المتزوجة أن تتزوج متعة وتشترط عدم الدخول بها، ولكن إنما يجوز لها أصل الزواج باذن الأب أو الجدّ للاب إذا كانت باكراً.
4- يجوز أن يكون المهر عملاً كخياطة ثوب أو تعليم كتابة ونحوها، كما يجوز أن يكون حقّاً قابل الانتقال كحقّ التحجير. فإن كان المهر في عقد المتعة طلباً أو شرطاً يؤول الى العمل أو الحق فهو جائز بشرط أن يكون العمل والحق معيناً.
5- كلٌّ من الزواج الدائم وزواج المتعة شرعي، فإن زواج المتعة فيه دليل قرآني قال تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة).
أ - إلا أن زواج المتعة له أجل والدائم ليس له أجل.
ب- وأن الزواج الدائم يحتاج إلى طلاق لأجل الفراق، بينما لا يحتاج زواج المتعة إلى الطلاق بل ينتهي بانتهاء أمده.
ج- ولا يوجد في زواج المتعة توارث إلا مع الاشتراط.
د- ولا تجب نفقة الزوجة على زوجها في المتعة إلا مع اشتراط ذلك. وهذا الأمران الأخيران (ج و د) قد يحصلان في الزواج الدائم أيضاً حيث أن المرأة الكافرة لا ترث زوجها المسلم مع أنها زوجة له دائمية، وكذا القاتلة فإنها لا ترث زوجها المسلم مع أنها زوجة دائمة. وكذا فإن الزوجة الناشزة لا نفقة لها مع أنها زوجة دائمة.
أما العدّة فهي لازمة في النكاح الدائم والنكاح المنقطع معاً.
الهوامش
2) النساء: 23-24.
(3) النساء: 3.
(4) النساء: 4.
(5) النساء: 25.
(6) المؤمنون: 6.
(7) مسند أحمد 4: 436.
(8) تفسير الطبري 5: 9.
(9) أحكام القرآن 2: 178.
(10) السنن الكبرى 7: 205.
(11) الكشاف 1: 360.
(12) جامع أحكام القرآن 5: 13.
(13) مفاتيح الغيب 3: 267.
(14) تفسير المنار 3: 17.
(15) المؤمنون: 5 - 7.
(16) تفسير المنار 5: 13.
(17) لاحظ كتابه: السنّة والشيعة: 65 - 66.
(18) لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال، مسائل فقهية لشرف الدين: 63-64، الغدير 6: 225، أصل الشيعة وأُصولها: 171، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.
(19) مفاتيح الغيب 10: 52-53، شرح التجريد للقوشجي: 484 ط إيران.
(20) الطبري، التفسير 5: 9.
(21) مسند أحمد 2: 95.
(22) المائدة: 87.
(23) صحيح البخاري، كتاب النكاح 7: 4، الباب 8: الحديث 3.
(24) صحيح البخاري 6: 27، كتاب التفسير، تفسير قوله تعالى: (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ)من سورة البقرة.
(25) مسند أحمد، ولاحظ مسائل فقهيّة للسيد شرف الدين: 70.
(26) المؤمنون: 1-7.
(27) ابن خلّكان: وفيات الأعيان 6: 149 - 150.
(28) مسلم: الصحيح 4: 130، باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمد علي صبيح.
(29) أحمد، المسند 1: 52.
(30) محمّد جواد مغنية، الاثنا عشرية وأهل البيت: 46.
0 التعليقات:
إرسال تعليق